الديمقراطية الاجتماعية ومستقبل التنمية السياسية والاقتصادية في العراق د. غازي فيصل حسين مجلة الشمس
بعد الحرب الباردة، أقدمت الدول الاقتصادية الرأسمالية على تقديم وعود للتنمية المستدامة عبر تطبيق خطط وبرامج لتحقيق الرفاه الاقتصادي العالمي بقيام الشركات المتععدة الجنسية والمستثمرين بضخ رأسمال وتكنولوجيا إلى مناطق الدول النامية بغية خلق سوق واسعة عابرة للحدود القومية، تعتمد على المستهلكين من الطبقة الوسطى. لقد أعطى هذا المخطط دفعة مهمة للتجارة الدولية منذ عام 1989م. وفي عام 1997م صنفت مجموعة: “الشفافية الدولية”، الفساد في اثنين وخمسين بلداً طبقاً إلى معلومات مؤكدة من إداريين واختصاصيين في تلك الدول، وجاء تصنيف روسيا الرابعة وأندونيسيا السابعة وتايلند الرابعة عشرة. فلقد أدت الإنهيارات الإقتصادية إلى وضع النظام الرأسمالي أمام مآزق عديدة، لأن العالم لا يستطيع تقديم آليات مثالية أمام التجارة الحرة وحركة رأس المال.
لقد حذر التقرير الصادر عن الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية في عام 1998م من حصول ركود عالمي فعلي، إذا لم يستبدل الإنكماش باستراتيجية انتعاش في آسيا وأميركا اللاتينية، فالكارثة الإقتصادية الدولية كما يبين التقرير تتمثل في عدم الإستقرار المالي في الأسواق الناشئة وهبوط الأسعار في الأسواق بعد مدة ارتفاع متواصلة مما عرض الدول الصناعية الكبرى إلى أزمات في البورصات وتباطؤ في النمو مفاجيء في الولايات المتحدة وسياسة التقشف في أوروبا وركود متواصل في شرق آسيا وفي اليابان وتفاقم العجز التجاري في الدول الصناعية الكبرى. لقد استنكر التقرير الصادر عن الأمم المتحدة إفقار ملايين الناس في آسيا بسبب البطالة وارتفاع الأسعار وانخفاض الإنفاق الإجتماعي.
كذلك انتقد التقرير الإجحاف المتمثل بتحميل الدول النامية والمواطنين العاديين كلفة أزمات الأسواق الرأسمالية وتضخم الديون، فتكاليف الأزمة الإقتصادية الآسيوية عام 1998م تمثل 1% من الإنتاج العالمي أي 260 مليار دولار وهو ما يعادل العائد السنوي لجميع البلدان الأفريقية غير العربية، أما معدل النمو العالمي فيبلغ 2% أي بتراجع قدره 1.2% عن عام 1997م، وانخفض معدل النمو في البلدان النامية بنسبة النصف عن عام 1997م، ففي الصين ارتفع معدل النمو 6% وكان النمو في اليابان سلبياً، وشهد النمو الإقتصادي في أميركا اللاتينية تباطؤ في معدلاته، أما في الولايات المتحدة فتعرض النمو الإقتصادي لهبوط حاد بعد سنوات من الإنفاق الذي تخطى العائدات. وهذا ما دفع الرئيس بل كلنتون إلى الدعوة لإنشاء منطقة تجارية عالمية حرة تشمل بلدان الأميركيتين الذي يصل مجموع الناتج القومي لدولها إلى 10 ترليون دولار سنويا، وتضم كتلة بشرية تصل إلى 750 مليون نسمة، لكن حل أزمة الرأسمالية العالمية لن يكون في مثل هذه المشاريع أو الخطط السابقة أو اللاحقة، إن أزمة الرأسمالية على غرار الشيوعية: أزمة بنيوية هيكلية وأزمة فكرية، نظرية، وهذا ما بدأ العالم والبشرية إدراكه بصورة واضحة. فما العمل؟ وما هو البديل؟
للإجابة عن هذا التساؤل، لابد من إثارة ملاحظة منهجية مهمة عند دراسة مستقبل الرأسمالية، وهي أننا يجب أن نخرج من دائرتين: الأيدولوجية والحضارية، أي لا بد أن ننظر للرأسمالية والقيم الإشتراكية في العالم من خلال النظرية الديمقراطية الاجتماعية. لذا يفترض الإنطلاق من منظور حضاري اجتماعي ديمقراطي جديد لاقتصاد السوق المفتوح. لقد قامت الليبرالية على أساس الحرية الفردية كمبدأ وحيد لبناء المجتمعات، وانتجت الليبرالية الرأسمالية نظام العولمة الاقتصادية والسيساية والثقافية. وفي هذه الحقبة التاريخية التي شهدت انهيار الشيوعية والأزمة العميقة للرأسمالية الدولية، تبدو الديمقراطية الاجتماعية الأكثر قدرة على استيعاب مشكلات العالم الاقتصادية والسياسية، ووضع أطر نظرية وعملية للمستقبل الذي لن يكون إلا ديمقراطياً، بما يضمن الحرية والعدالة والمساواة في الحقوق. للتعبير بعمق عن انسانية الإنسان، عبر تحرير العالم والإنسان والمجتمعات من مختلف أشكال الإحتكار والقمع والاستبداد والأنظمة الآيديولوجية او الثيوقراطية الشمولية التوتاليتارية الاستبدادية.
عندها ستبدو الديمقراطية الاجتماعية، نظاما اقتصاديا وسياسيا وإجتماعيا يحقق التوازن بين الطبقات بدلا من الصراع، ويضمن التعايش الإجتماعي والإقتصادي من خلال المشاركة في الإدارة وفي الحياة السياسية، وتحقيق العدالة في الحقوق والثروات ومن خلال إتاحة الفرص للجميع، دونما تمييز طبقي أو عرقي أو ديني، عندها تبدو الديمقراطية الاجتماعية نظاما للسلام والإستقرار والعدل الاجتماعي، في إطار النظام الاقتصادي الدولي.
أن الإقتصاد السياسي كما بين غيرهارد شرودر Gerhard Schröder، لم يعد اقتصادا رأسمالياً أو اشتراكياً، لأن هذا الاستنتاج مبني على مغالطة تاريخية، لذا يفترض الحديث عن الاقتصاد السياسي المعاصر الذي يدفعنا لإدراك مفاده: أن الأسواق العالمية لا تخضع فقط للتنافس بين بعض المؤسسات الصناعية الكبرى، بل يضاف إليها التنافس بين الاقتصادات الوطنية، لذا يؤكد غيرهارد شرودر على أهمية وضع سياسة مبنية على تدعيم القدرة التنافسية للإقتصاد الوطني للدول.
من جانب آخر يؤكد غيرهارد شرودر: أن على السياسة أن تضمن وجود قاعدة من الوفاق والتوافق الإجتماعي عبر بنية اقتصادية قومية متوازنة وهذا يتطلب تجنب عدم تمتع الشعب بما يوفره النمو الإقتصادي من رفاه للمجتمع من خلال المشاركة في الثروة والمشاركة في السلطة ضمن إطار المجتمع الديمقراطي، الذي يفترض أن يوفر قدر أكبر من الوفاق والإتفاق بين المشاركين في البنية الإجتماعية، أي تحقيق التوازن بين الطبقات، فالوفاق الإجتماعي وحده القادر على تقديم الأنموذج الأمثل ليس لتنظيم المجتمع فقط بل لتنظيم الإقتصاد أيضا، ولكن ما العمل عندما تتعرض المجتمعات لتحولات نوعية تاريخية طبقية واقتصادية تهدد التوازن الإجتماعي؟ غيرهارد شرودر يحاول الإجابة على هذه المعضلة بالإعتقاد بضرورة العمل على إعادة النظر في طبيعة الوفاق الإجتماعي وعناصره، لمواجهة العولمة التي تعارضها الأحزاب الديمقراطية الأوروبية إلى جانب مواجهة ما تولده المجالات والتكتلات الإقتصادية القارية من نتائج سلبية على خصائص العلاقات الإقتصادية الدولية.
الأحزاب الديمقراطية الأوروبية اليوم، تبحث عن الأمن عبر الديمقراطية الاجتماعية لأن الخيار الديمقراطي يبقى الوحيد الذي بمقدوره مواجهة الأزمة الإقتصادية للنظام الاقتصادي العالمي، كما تدافع الأحزاب الإشتراكية في اوروبا عن حقوق المواطنين في المشاركة في السلطة وفي صنع القرارات ليس في المجال السياسي او الاقتصادي والاجتماعي فقط بل على صعيد إدارة المؤسسات الإقتصادية أيضا، وهذا يعني: أن الدولة الديمقراطية المعاصرة لا تتحمل الأعباء كاملة حيث يتحقق التوازن والوفاق من خلال المشاركة في الإدارة على صعيد المصنع والتنسيق بين القطاع العام والقطاع الخاص، إضافة لضمان التعاون بين الأحزاب لتحقيق التضامن الإجتماعي.
السياسة الإجتماعية في الفكر السياسي والاقتصادي في العراق تعني: تنمية وبناء نظم للحماية الاجتماعية من خلال التفكير من جديد ببناء سياسة اجتماعية أكثر فاعلية، عبر تجنب المركزية التي تؤدي للتعسف والإمتناع عن الإسراف أو المبالغة في توفير الضمانات الاجتماعية، فهذه المناهج تمنع التنافس وتلغي الإبداع وهذا يتطلب تنمية الإرادة الفردية بصورتها الإيجابية في إطار الدولة الحديثة التي يحقق اقتصادها الرفاه والوفرة لذا تشجع الديمقراطية الاجتماعية الأفراد ذوي القدرات والكفاءات العالية في المجالات الإقتصادية والعلمية والثقافية وتعمل على منع تحول الفردية نحو الأنانية عبر تنشيط التضامن والتوافق الإجتماعي.
لذا يفترض بذل الجهود الواسعة في العراق والعمل على تقويض النماذج التقليدية السياسية والإقتصادية التي تحولت إلى مسلمات، لأنها لم تعد تصلح أدوات في بناء النظم السياسية المعاصرة لذا تعمد استراتيجية الفكر السياسي والاقتصادية للديمقراطية الاجتماعية، للعمل من أجل ضمان التنمية والإستقرار على صعيد القاعدة الاقتصادية الوطنية وتوسيع فرص المواجهة مع البنية السياسية اليمينية التقليدية. وهذا يعني أن الفكر السياسي والاقتصادي في العراق وهو يواجه سياسات الصراع بين التقليدية والحداثة، ما