يعني أنَّ الرصاصة قد أقامت في القلب كل هذا الزمن، حتى لا يهرب منه الوطن، بلا إنحياز ولا إنحناء، حتى إذا سكنت في صدرك نجا الوطن، وبهذا تصبح جديرًا بالحياة.
قضيت عمرك وأنت تبحث عن الوطن والوطن يبحث عنك، تسافر به ويسافر بك، تطوفان حول الجلجلة والصليب تعلقه على كتفيك وأنت مسكون بالشهادة.
وكنا ثلاثة غرباء أنا وأنت والوطن، لم نكن نعرف معنى للوطن سوى دائرة النفوس والشرطة والمدرسة، أما المدرسة فكانت تعني كيف نتهجى أسماءنا، وكيف نقلم أظفارنا في الإصطفاف الصباحي خوفًا من عصا المعلم، ونحفظ أكبر عدد من الأناشيد والمواعظ ونأخذ كسوة الشتاء، تلك هي المسألة إذن أني حفظت أضعاف ما كنتَ تحفظ من الأناشيد الحماسية والمحفوظات المدرسية والمواعظ، واشتركتُ في سباقات ومهرجانات كثيرة، كانت هذه الأواصر كل مايربطني بالوطن، وكان أجمل شيء فيك أنك لم تحفظ الشعر ولم تشارك في أي مهرجان، فالشعر عندك إنفعال والوطن ليس إنفعالًا ولا توترًا ينتهي إلى الإسترخاء والراحة، ولم تبح بإسمك الجميل حتى استشهدت، فالبركان ليس بركانًا حتى ينفجر، والثورة ليست ثورةً حتى تجسد الكلمة والحلم.
إذن كنتَ تخشى أن يتسلل الحلم من عينيك، أو تذوب الكلمة والوطن بين شفتيك، بعد أن تأكدتَ أن الحسين إكتشف ذاته بالشهادة، وأنه لم يجسد كلمته إلّا بالدم، مجد الحسين أنه استشهد في الطف فعمَّر دمه الأرض بالإيمان.
هذه اللغة وهذا الحوار الألمعي جعلك تنهض من بين أحضان الطرفة والغَرَب والنواعير الحزانى كالغزال الشارد لتشارك الجياد في السباق الأول والأخير، يا فرس الغابات الجموح، كنت تبحث عن الوطن والوطن يبحث عنك وكنا ثلاثة مسافرين بلا سفر، صرنا ثلاثة أحبة، تحول السفر إلى إقامة، صار الوطن قلباً، صار القلب رصاصة، وصارت الرصاصة سنبلة، وأنت اكتشفت أن الوطن ليس نشيدًا ولا ميدان سباق وأنا انفقت أكثر عمري أنفض الغبار عن المفردات والعبارات والجمل المفيدة. مأساتي أني لم اجد الجملة المفيدة التي تليق بي، وسبقتني في كل شيء بالرغم من أنك لم تقض الا لحظة إستشهادك التي اكتشفت فيها أن الكلمات تولد ميتة إن لم تسافر بين الرصاص، فأستشهدت لتمنحنا الحياة، وجرى الرصاص المنهمر في صدرك فأزدهر الوطن..
كم صديق رثيت وكم عزيز شيعت.. غير أن الكلمات جفّت في شفتي، ولا يزال دمك نديا، فأنا ودعت برحيلك أعز مرحلة في حياتي وأنت حاضر بيننا تحيا فينا ولنا، والرصاصة إستقرت في صدرك والجرح في صدري، أيها المقيم في جرحي وحلمي، لقد إختصرت لي آلافًا من الكتب لم أقرأها بكلمة واحدة هي الشهادة، وعلمتني الطريق إلى اكتشاف الذات، لا تترجل ولا تتنازل عن مجدك.. إنتظرني ربما أصل اليوم أو غدًا.